الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ بَيَّنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ مَعْنَى قَوْلِهِ: (الم) وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ {غُلِبَتِ الرُّومُ} بِضَمِّ الْغَيْنِ، بِمَعْنَى أَنَّ فَارِسَ غَلَبَتِ الرُّومَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنِ الْحَسَنِ الْجَفْرِيِّ، عَنْ سَلِيطٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْرَأُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَلَبُوا؟ قَالَ: عَلَى رِيفِ الشَّامِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} بِضَمِّ الْغَيْنِ؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: غَلَبَتْ فَارِسٌ الرُّومَ {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} مِنْ أَرْضِ الشَّامِ إِلَى أَرْضِ فَارِسٍ {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} يَقُولُ: وَالرُّومُ مِنْ بَعْدِ غَلَبَةِ فَارِسٍ إِيَّاهُمْ (سَيَغْلِبُونَ) فَارِسَ {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ} غَلَبَتِهِمْ فَارِسَ (وَمِنْ بَعْدُ) غَلَبَتِهِمْ إِيَّاهَا، يَقْضِي فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَيَظْهَرُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ أَحَبَّ إِظْهَارَهُ عَلَيْهِ {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} يَقُولُ: وَيَوْمَ يَغْلِبُ الرُّومَ فَارِسٌ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَنُصْرَةِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ (يَنْصُرُ) اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ (مَنْ يَشَاءُ) مِنْ خَلْقِهِ، عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ نُصْرَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) يَقُولُ: وَاللَّهُ الشَّدِيدُ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِلٌ، (الرَّحِيمُ) بِمَنْ تَابَ مَنْ خَلْقِهِ وَرَاجَعَ طَاعَتَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ-أَوْ، سَعِيدٌ الثَّعْلَبِيُّ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسٍ- قَالَ: ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَغْلِبَ الرُّومُ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَغْلِبَ أَهْلُ فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ سَيُهْزَمُونَ"، قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُشْرِكِينَ، قَالَ: فَقَالُوا: أَفَنَجْعَلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَجَلًا فَإِنْ غَلَبُوا كَانَ لَك كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ غَلَبْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ، قَالَ: فَمَضَتْ فَلَمْ يُغْلَبُوا، قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: "أَفَلَا جَعَلْتَهُ دُونَ الْعَشْرِ"، قَالَ سَعِيدٍ: وَالْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشْرِ، قَالَ: فَغُلِبَ الرُّومُ، ثُمَّ غَلَبَتْ، » قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} قَالَ: الْبِضْعُ: مَا دُونُ الْعَشْرِ، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} قَالَ سُفْيَانُ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ غَلَبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانَ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْبَرْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لِمَا نَزَلَتْ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الْآيَةَ، نَاحَبَ أَبُو بَكْرٍ قُرَيْشًا، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ نَاحَبْتُهُمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَّا احْتَطْتَ، فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ". قَالَ الْجُمَحِيُّ: الْمُنَاحَبَةُ: الْمُرَاهَنَةُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} قَالَ: قَدْ مَضَى، كَانَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ فَارِسٍ وَالرُّومِ، وَكَانَتْ فَارِسٌ قَدْ غَلَبَتْهُمْ، ثُمَّ غَلَبَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَقِيَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَوْمَ الْتَقَتِ الرُّومُ وَفَارِسُ، فَنَصَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَنَصَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَجَمِ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَنَصْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْعَجَمِ. قَالَ عَطِيَّةُ: فَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْتَقَيْنَا مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالْتَقَتِ الرُّومُ وَفَارِسُ، فَنَصَرَنَا اللَّهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَنَصْرَ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ، فَفَرَحْنَا بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّانَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَفَرَحْنَا بِنَصْرِ اللَّهِ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} غَلَبَتْهُمْ فَارِسُ، ثُمَّ غَلَبَتِ الرُّومُ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَدْ مَضَى {الم غُلِبَتِ الرُّومُ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} قَالَ: ذَكَرَ غَلَبَةَ فَارِسَ إِيَّاهُمْ، وَإِدَالَةَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، وَفَرَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ الرُّومِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى فَارِسَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، «أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ اقْتَتَلُوا فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، قَالُوا: وَأَدْنَى الْأَرْضِ يَوْمئِذٍ أَذْرِعَاتُ، بِهَا الْتَقَوْا، فَهُزِمَتِ الرُّومُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَهُمْ بِمَكَّةَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ أَنْ يَظْهَرَ الْأُمِّيُّونَ مَنَ الْمَجُوسِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَنَ الرُّومِ، فَفَرَحَ الْكُفَّارُ بِمَكَّةَ وَشَمِتُوا، فَلَقُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ، وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مَنْ أَهْلِ فَارِسٍ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُونَا لَنَظْهَرَنَّ عَلَيْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} الْآيَاتِ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى الْكُفَّارِ، فَقَالَ: أَفَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى إِخْوَانِنَا؟ فَلَا تَفْرَحُوا، وَلَا يَقَرَّنَّ اللَّه أَعْيُنكُمْ، فَوَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا أَبَا فُضَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْتَ أَكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَقَالَ: أُنَاحِبُكَ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنِّي، وَعَشْرَ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمْتَ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ غَرِمْتُ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ، إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، فَزَايِدْهُ فِي الْخَطَرِ، وَمَادِّهِ فِي الْأَجَلِ". فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَلَقِيَ أُبَيًّا، فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ، فَقَالَ: لَا فَقَالَ: أُزَايِدُكَ فِي الْخَطَرِ، وأُمَادُّكَ فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مِئَةَ قَلُوصٍ لِمِئَةِ قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ ثَنْي حَجَّاجٌ، عَن أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَتْ فِي فَارِسَ امْرَأَةٌ لَا تَلِدُ إِلَّا الْمُلُوكَ الْأَبْطَالَ، فَدَعَاهَا كِسْرَى، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ إِلَى الرُّومِ جَيْشًا وَأَسْتَعْمِلُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِيكِ، فَأَشِيرِي عَلَيَّ أَيُّهُمْ أَسْتَعْمِلُ، فَقَالَتْ: هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ، وَأَحْذَرُ مِنْ صُرَدٍ، وَهَذَا فَرْخَانُ، وَهُوَ أَنْفَذُ مِنْ سِنَانٍ، وَهَذَا شهربراز، وَهُوَ أَحْلُمُ مِنْ كَذَا، فَاسْتَعْمِلْ أَيّهمْ شِئْت، قَالَ: إِنِّي قَدْ اسْتَعْمَلْت الْحَلِيمَ، فَاسْتَعْمَلَ شهربراز، فَسَارَ إِلَى الرُّومِ بِأَهْلِ فَارِسَ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَهُمْ، وَخَرَّبَ مَدَائِنَهُمْ، وَقَطَعَ زَيْتُونَهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ فَقَالَ: أَمَا رَأَيْتَ بِلَادَ الشَّامِ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهَا لَرَأَيْتَ الْمَدَائِنَ الَّتِي خُرِّبَتْ، وَالزَّيْتُونَ الَّذِي قُطِعَ، فَأَتَيْتُ الشَّامَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ. قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، أَنْ قَيْصَرَ بَعَثَ رَجُلًا يُدْعَى قَطِمَةَ بِجَيْشٍ مِنْ الرُّومِ، وَبَعْثَ كِسْرَى شهربراز، فَالْتَقَيَا بَأَذْرِعَاتَ وَبُصْرَى، وَهِيَ أَدْنَى الشَّامِ إِلَيْكُمْ، فَلَقِيَتْ فَارِسُ الرُّومَ، فَغَلَبَتْهُمْ فَارِسُ، فَفَرَحَ بِذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَكَرِهَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الْآيَاتُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، وَزَادَ: فَلَمْ يَزَلْ شهربراز يَطَؤُهُمْ، وَيُخَرِّبُ مَدَائِنَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْخَلِيجَ، ثُمَّ مَاتَ كِسْرَى، فَبَلَغَهُمْ مَوْتُهُ، فَانْهَزَمَ شهربراز وَأَصْحَابُهُ، وَأَوْعَبَتْ عَلَيْهِمُ الرُّومُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَتْبَعُوهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ قَالَ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي حَدِيثِهِ: لِمَّا ظَهَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ جَلَسَ فَرْخَانُ يَشْرَبُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى، فَبَلَغَتْ كِسْرَى، فَكَتَبَ إِلَى شهربُراز: إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِ فَرْخَانَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّك لَنْ تَجِدَ مَثَلَ فَرْخَانَ، إِنَّ لَهُ نِكَايَةً وَضَرْبًا فِي الْعَدُوِّ، فَلَا تَفْعَلُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ فِي رِجَالِ فَارِسَ خَلَفًا مِنْهُ، فَعَجِّلْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ، فَرَاجِعْهُ، فَغَضِبَ كِسْرَى، فِلْم يُجِبْهُ، وَبَعَثَ بَرِيدًا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ، إِنِّي قَدْ نَزَعْتُ عَنْكُمْ شهربراز، وَاسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ فَرْخَانَ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَى الْبَرِيدِ صَحِيفَةً صَغِيرَةً: إِذَا وَلِيَ فَرْخَانُ الْمُلْكَ، وَانْقَادَ لَهُ أَخُوهُ، فَأَعْطِهِ هَذِهِ؛ فَلِمَا قَرَأَ شهربراز الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، ونَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ فَرْخَانُ، وَدَفَعَ الصَّحِيفَةَ إِلَيْهِ، قَالَ: ائْتُونِي بِشهربراز، فَقَدَّمَهُ لِيَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: لَا تُعَجِّلْ حَتَّى أَكْتُبَ وَصِيَّتِي، قَالَ: نَعِمَ، فَدَعَا بِالسَّفَطِ، فَأَعْطَاهُ ثَلَاثَ صَحَائِفَ، وَقَالَ: كُلُّ هَذَا رَاجَعْتُ فِيكَ كِسْرَى، وَأَنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تَقْتُلَنِي بِكِتَابٍ وَاحِدٍ، فَرَدَّ الْمَلِكُ، وَكَتَبَ شهربراز إِلَى قَيْصَرَ مَلَكِ الرُّومِ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً لَا يَحْمِلُهَا الْبَرِيدُ، وَلَا تُبَلِّغُهَا الصُّحُفُ، فَالْقَنِي، وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا فِي خَمْسِينَ رُومِيًّا، فَإِنِّي أَلْقَاكَ فِي خَمْسِينَ فَارِسِيًّا، فَأَقْبَلَ قَيْصَرُ فِي خَمْسِ مِئَةِ أَلْفِ رُومِيٍّ، وَجَعْلَ يَضَعُ الْعُيُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الطَّرِيقِ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَكَرَ بِهِ، حَتَّى أَتَتْهُ عُيُونُهُ أَنْ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا ثُمَّ بُسِطَ لَهُمَا وَالْتَقَيَا فِي قُبَّةِ دِيبَاجٍ ضُرِبَتْ لَهُمَا، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِكِّينٌ، فَدَعَيَا تُرْجُمَانًا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ شهربراز: إِنَّ الَّذِينَ خَرَّبُوا مَدَائِنَكَ أَنَا وَأَخِي بِكَيْدِنَا وَشَجَاعَتِنَا، وَإِنَّ كِسْرَى حَسَدَنَا، فَأَرَادَ أَنْ أَقْتُلَ أَخِي، فَأَبَيْتُ، ثُمَّ أَمَرَ أَخِي أَنْ يَقْتُلَنِي، فَقَدْ خَلَعْنَاهُ جَمِيعًا، فَنَحْنُ نُقَاتِلُهُ مَعَكَ. فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتُمَا، ثُمَّ أَشَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ أَنَّ السِّرَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ فَشَا. قَالَ: أَجَلْ، فَقَتَلَا التُّرْجُمَانَ جَمِيعًا بِسِكِّينَيْهِمَا، فَأَهْلَكَ اللَّهُ كِسْرَى، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَفَرَحَ وَمِنْ مَعَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} قَالَ: غَلَبَتْهُمْ فَارِسُ عَلَى أَدْنَى الشَّامِ {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الْآيَةَ، قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ صَدَّقَ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ الرُّومَ سَيَظْهَرُونَ عَلَى فَارِسَ، فَاقْتَمَرُوا هُمْ وَالْمُشْرِكُونَ خَمْسَ قَلَائِصَ خَمْسَ قَلَائِصَ، وَأَجَّلُوا بَيْنَهُمْ خَمْسَ سِنِينَ، فَوَلِيَ قِمَارَ الْمُسْلِمِينَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَوَلِيَ قِمَارَ الْمُشْرِكِينَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْهَى عَنِ الْقِمَارِ، فَحَلَّ الْأَجَلُ، وَلَمْ يَظْهَرِ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ، وَسَأَلَ الْمُشْرِكُونَ قِمَارَهُمْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمْ تَكُونُوا أَحِقَّاءَ أَنْ تُؤَجِّلُوا دُونَ الْعَشْرِ، فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ، وَزَايِدُوهُمْ فِي الْقِمَارِ، وَمَادُّوهُمْ فِي الْأَجَلِ"، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَأَظْهَرُ اللَّهُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ عِنْدَ رَأْسِ الْبِضْعِ سِنِينَ مِنْ قِمَارِهِمُ الْأَوَّلِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَفَرَحَ الْمُسْلِمُونَ بِصُلْحِهِمُ الَّذِي كَانَ، وَبِظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا شَدَّدَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ». حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إِلَى قَوْلِِهِِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ النَّاسِ بِمَكَّةَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ، قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ، قَالَ: وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَتْ فَارِسُ ظَاهِرَةٌ عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍِ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إِلَى {فِي بِضْعِ سِنِينَ} قَالُوا: يَا أَبَا بَكْر، إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، قَالَ: صَدَقَ. قَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ نُقَامِرَكَ؟ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، فَمَضَتِ السَّبْعُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، وَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: "مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ؟ " قَالُوا: دُونَ الْعَشْرِ. قَالَ: "اذْهَبْ، فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ" قَالَ: فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، فَفَرَحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنِ الْأَعْمَشِ وَمَطَرٍ، عَنِ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَضَتِ الرُّومُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} قَالَ: أَدْنَى الْأَرْضِ: الشَّأْمُ، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} قَالَ: «كَانَتْ فَارِسُ قَدْ غَلَبَتِ الرُّومَ، ثُمَّ أُدِيلَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، وَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ "، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَذَا مِمَّا يَتَخَرَّصُ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تُنَاحِبُونَنِي؟-وَالْمُنَاحَبَةُ: الْمُجَاعَلَةُ- قَالُوا: نَعَمْ. فَنَاحَبَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعْلَ السِّنِينَ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْبِضْعَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثِِ إِلَى التِّسْعِِ، فَارْجِعْ إِلَى الْقَوْمِ، فَزِدْ فِي الْمُنَاحَبَةِ"، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ. قَالُوا: فَنَاحَبَهُمْ فَزَادَ. قَالَ: فَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} يَوْم أُدِيلَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} قَالَ: غُلِبَتْ وَغَلَبَتْ؛ فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ: {غَلَبَتِ الرُّومُ} بِفَتْحِ الْغَيْنِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَلَبَةِ الرُّومِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ- يَعْنِي الْأَعْمَشََ- عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لِمَا كَانَ يَوْمَ ظَهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ {الم غَلَبَتِ الرُّومُ} عَلَى فَارِسَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لِمَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، غَلَبَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَفَرَحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إِلَى آخَرَ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لِمَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٌ، فََأَنْزَلَ اللَّهُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} قَالَ: كَانُوا قَدْ غَلَبُوا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}. وَقَوْلُهُ: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}قَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ، وَأَذْكُرُ قَوْلَ مِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلِهِ: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} يَقُولُ: فِي طَرَفِ الشَّامِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَدْنَى: أَقْرَبُ، وَهُوَ أَفْعَلُ مِنَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ مَنْ فَارِسَ، فَتَرَكَ ذِكْرَ فَارِسَ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} عَلَيْهِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} يَقُولُ: وَالرُّومُ مِنْ بَعْدِ غَلَبَة فَارِسَ إِيَّاهُمْ سَيَغْلِبُونَ فَارِسَ. وَقَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: غَلَبْتُهُ غَلَبَةَ، فَحُذِفَتِ الْهَاءَ مِنَ الْغَلَبَةِ. وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ غَلَبَهُمْ، وَلَمْ يَقِلْ: مِنْ بَعْدِ غَلَبَتِهِمْ لِلْإِضَافَةِ، كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} لِلْإِضَافَةِ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ: وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (سَيَغْلِبُونَ) فَإِنَّ الْقُرَّاءَ أَجْمَعِينَ عَلَى فَتْحِ الْيَاءِ فِيهَا، وَالْوَاجِبِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} بِفَتْحِ الْغَيْنِ، أَنْ يَقْرَأَ قَوْلَهُ: (سَيُغْلَبُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبَتِهِمْ فَارِسَ سَيَغْلِبُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ كَبِيرُ مَعْنًى إِنْ فُتِحَتِ الْيَاءُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَمَّا قَدْ كَانَ يَصِيرُ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ أَنَّهُ سَيَكُونُ، وَذَلِكَ إِفْسَادُ أَحَدِ الْخَبِرَيْنِ بِالْآخَرِ. وَقَوْلُهُ: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْبِضْعِ فِيمَا مَضَى، وَأَتَيْنَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ الصِّفَارُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا الْبِضْعُ؟ قَالَ: زَعَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ تِسْعٌ أَوْ سَبْعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} فَإِنَّ الْقَاسِمَ حَدَّثَنَا، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَوْلَهُ: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ} دَوْلَةُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ، (وَمِنْ بَعْدُ) دَوْلَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} فَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ فِي تَأْوِيلِهِ قَبْلُ، وَبَيَّنَا مَعْنَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَعْدُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَعَدَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ مِنْ بَعْدِ غَلَبَةِ فَارِسَ لَهُمْ، وَنُصِبَ {وَعَدَ اللَّهُ} عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} لِأَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَعْدًا، {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَفِي بِوَعْدِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ فَارِسَ، لَا يُخْلِفُهُمْ وَعْدَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوَاعِيدِهِ خَلْفٌ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ قُرَيْشٍِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجَزُ وَعْدِهِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ، لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي وَعْدِ اللَّهِ إِخْلَافٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِحَقِيقَةِ خَبَرِ اللَّهِ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ، ظَاهِرًا مِنْ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَتَدْبِيرِ مَعَايِشِهِمْ فِيهَا، وَمَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُمْ عَنْ أَمْرِ آخِرَتِهِمْ، وَمَا لَهُمْ فِيهِ النَّجَاةَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ هُنَالِكَ، غَافِلُونَ، لَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو تُمَيْلةَ يَحْيَى بْنِ وَاضِحٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَعْنِي مَعَايِشَهُمْ، مَتَى يَحْصُدُونَ وَمَتَى يَغْرِسُونَ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ ثَنَا: عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدِ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: مَتَى يَزْرَعُونَ، مَتَى يَغْرِسُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: ثَنِي شَرْقِيٌّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: هُوَ السِّرَاجُ أَوْ نَحْوُهُ. حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَة مُحَمَّدُ بْنُ فِرَاسٍ الضُّبَعِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ شَرْقِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: قَالَ السَّرَّاجُونَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ شَرْقِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: الْخَرَّازُونَ وَالسَّرَّاجُونَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: مَعَايِشُهُمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: مَعَايِشُهُمْ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَعْنِي الْكُفَّارَ، يَعْرِفُونَ عُمْرَانَ الدُّنْيَا، وَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ جُهَّالٌ. حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: مَعَايِشُهُمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} مِنْ حِرْفَتِهَا وَتَصَرُّفِهَا وَبُغْيَتِهَا، {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: يَعْلَمُونَ مَتَى زَرْعُهُمْ، وَمَتَى حَصَادُهُمْ. قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ رَاشِدٍ الْهِلَالِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ شَرْقِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: السِّرَاجُ وَنَحْوُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: صَرْفَهَا فِي مَعِيشَتِهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ: تَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَدْ نَزَلَتْ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: وَيُرْمَوْنَ بِالشُّهُبِ، فَلَا يَنْجُو أَنْ يَحْتَرِقَ، أَوْ يُصِيبَهُ شَرَرٌ مِنْهُ، قَالَ: فَيَسْقُطُ فَلَا يَعُودُ أَبَدًا، قَالَ: وَيَرْمِي بِذَاكَ الَّذِي سَمِعَ إِلَى أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْإِنْسِ، قَالَ: فَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ أَلْفَ كَذْبَةٍ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَيَجِيءُ الصَّحِيحُ مِنْهُ كَمَا يَقُولُونَ الَّذِي سَمِعُوهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَيُعْقِبُهُ مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي يَخُوضُونَ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْلَمَ يَتَفَكَّرْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ فِي خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، ثُمَّ صَرَفَهُمْ أَحْوَالًا وَقَارَّاتٍ حَتَّى صَارُوا رِجَالًا فَيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ قَادِرٌ أَنْ يُعِيدَهُمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ خَلْقًا جَدِيدًا، ثُمَّ يُجَازِي الْمُحْسِنَ مِنْهُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَيُعَاقِبُهُ بِجُرْمِ غَيْرِهِ، وَلَا يَحْرِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَزَاءَ عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} إِلَّا بِالْعَدْلِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} يَقُولُ: وَبِأَجَلٍ مُؤَقَّتٍ مُسَمًّى، إِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَفْنَى ذَلِكَ كُلَّهُ، وَبَدَّلَ الْأَرْضَ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ جَاحِدُونَ مُنْكِرُونَ؛ جَهْلًا مِنْهُمْ بِأَنَّ مَعَادَهُمْ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ فَنَائِهِمْ، وَغَفْلَةٍ مِنْهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْلَمَ يَسِرْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ، الْغَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا تَجْرًا، فَيَنْظُرُوا إِلَى آثَارِ اللَّهِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا فِي تَكْذِيبِهَا رُسُلَهَا، فَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ}: يَقُولُ: وَاسْتَخْرَجُوا الْأَرْضَ، وَحَرَثُوهَا وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَ هَؤُلَاءِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، مَعَ شِدَّةِ قُوَاهُمْ مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَلَا نَفَعَتْهُمْ عِمَارَتُهُمْ مَا عَمَرُوا مِنَ الْأَرْضِ، إِذْ {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} مِنَ الْآيَاتِ، فَكَذَّبُوهُمْ، فَأَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بِعِقَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ، وَجُحُودِهِمْ آيَاتِهِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بِمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} قَالَ: مَلَكُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} قَالَ: حَرَثُوهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} كَقَوْلِهِ: {وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ}، وَقَوْلُهُ: (وَعَمَرُوهَا) أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَ هَؤُلَاءِ {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ كَانَ آخِرَ أَمْرِ مَنْ كَفَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ بِاللَّهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَأَسَاءُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ. (السُّوأَى): يَعْنِي الْخُلَّةَ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ مِنْ فِعْلِهِمْ؛ أَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَالْبَوَارُ وَالْهَلَاكُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالنَّارُ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا، وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فَى ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى}: الَّذِينَ أَشْرَكُوا السُّوأَى: أَيِ النَّارُ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} يَقُولُ: الَّذِينَ كَفَرُوا جَزَاؤُهُمُ الْعَذَابُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: السُّوأَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مَصْدَرٌ، مِثْلَ البُقْوَى، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ فَقَالَ: هِيَ اسْمٌ. وَقَوْلُهُ: {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} يَقُولُ: كَانَتْ لَهُمُ السُّوأَى، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا فِي الدُّنْيَا بِآيَاتِ اللَّهِ، {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}. يَقُولُ: وَكَانُوا بِحُجَجِ اللَّهِ وَهُمْ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ يَسْخَرُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ تَعَالَى يَبْدَأُ إِنْشَاءَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مُنْفَرِدًا بِإِنْشَائِهِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا ظَهِيرٍ، فَيُحْدِثُهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، بَلْ بِقُدْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يُعِيدُهُ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ إِفْنَائِهِ وَإِعْدَامِهِ، كَمَا بَدَأَهُ خَلْقًا سَوِيًّا، وَلَمْ يَكُ شَيْئًا {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يَقُولُ: ثُمَّ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِ إِعَادَتِهِمْ خَلْقًا جَدِيدًا يُرَدُّونَ، فَيُحْشَرُونَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ و {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ تَجِيءُ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا يَفْصِلُ اللَّهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَيَنْشُرُ فِيهَا الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، فَيَحْشُرُهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} يَقُولُ: يَيْأَسُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، وَاكْتَسَبُوا فِي الدُّنْيَا مَسَاوِئَ الْأَعْمَالِ مَنْ كُلِّ شَرٍّ، وَيَكْتَئِبُونَ وَيَتَنَدَّمُونَ، كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا قَالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: (يُبْلِسُ). قَالَ: يَكْتَئِبُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ فِي النَّارِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قَالَ: الْمُبْلِسُ: الَّذِي قَدْ نَزَلَ بِهِ الشَّرُّ، إِذَا أَبْلَسَ الرَّجُلُ، فَقَدْ نَزَلَ بِهِ بَلَاءٌ. وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} لَمْ يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ {مِنْ شُرَكَائِهِمُ} الَّذِينَ كَانُوا يَتْبَعُونَهُمْ، عَلَى مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، فَيُشَارِكُونَهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى أَذَى رُسُلِهِ، (شُفَعَاءُ) يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَيَسْتَنْقِذُوهُمْ مِنْ عَذَابِهِ، {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} يَقُولُ: وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ (كَافِرِينَ)، يَجْحَدُونَ وِلَايَتَهُمْ، وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ تَجِيءُ السَّاعَةُ الَّتِي يُحْشَرُ فِيهَا الْخَلْقُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ، يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (يَتَفَرَّقُونَ) يَعْنِي: يَتَفَرَّقُ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ بِهِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، فَهُنَالِكَ يَمِيزُ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} قَالَ: فِرْقَةٌ وَاللَّهِ، لَا اجْتِمَاعَ بَعْدَهَا {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يَقُولُ: وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} يَقُولُ: فَهُمْ فِي الرَّيَاحِينِ وَالنَّبَاتَاتِ الْمُلْتَفَّةِ، وَبَيْنَ أَنْوَاعِ الزَّهْرِ فِي الْجِنَانِ يُسَرُّونَ، ويَلَذَّذُونَ بِالسَّمَاعِ وَطَيِّبِ الْعَيْشِ الْهَنِيِّ، وَإِنَّمَا خَصَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذِكْرَ الرَّوْضَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ أَحْسَنَ مَنْظَرًا، وَلَا أَطْيَبَ نَشْرًا مِنَ الرِّيَاضِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُ أَعْشَي بَنِي ثَعْلَبَةَ: مـا رَوْضَـةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحُسْنِ مُعْشِبَةٌ *** خَـضْرَاءُ جـادَ عَلَيْهَا مُسْـبِلٌ هَطِلُ يُضَـاحِكُ الشَّـمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ *** مُـؤَزَّرٌ بعَمِيـمِ النَّبْـتِ مُكْتَهِـلُ يَوْمًا بِأَطْيَبَ مِنْهَا نَشْـرَ رَائِحَـةٍ *** وَلَا بأحْسَـنَ مِنْهـا إِذْ دَنَا الْأَصْـلُ فَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ تَعَالَى، أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْمَنْظَرِ الْأَنِيقِ، وَاللَّذِيذِ مِنَ الْأَرَايِيحِ، وَالْعَيْشِ الْهَنِيِّ فِيمَا يُحِبُّونَ، وَيُسَرُّونَ بِهِ، وَيَغْبِطُونَ عَلَيْهِ. و (الْحَبْرَةُ) عِنْدَ الْعَرَبِ: السُّرُورُ وَالْغِبْطَةُ، قَالَ الْعَجَّاجُ: فَالْحَمْدُ لِلـهِ الَّـذِي أعْطَـى الحَـبَرْ *** مَـوَالِيَ الحَـقِّ إِنِ المَـوْلى شَـكَرْ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُكْرَمُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قَالَ: يُكْرَمُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: يَنْعَمُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (يُحْبَرُونَ) قَالَ: يَنْعَمُونَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قَالَ: يَنْعَمُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَلَذَّذُونَ بِالسَّمَاعِ وَالْغِنَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَسِيُّ، قَالَ: ثَنِي عَامِرُ بْنُ يَسَافَ، قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قَالَ: الْحَبْرَةُ: اللَّذَّةُ وَالسَّمَاعُ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: (يُحْبَرُونَ) قَالَ: السَّمَاعُ فِي الْجَنَّةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ عَامِرِ بْنِ يَسَافَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، مَثَلَهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ تَعُودُ إِلَى مَعْنَى مَا قُلْنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَالنُّشُورِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، فَأُولَئِكَ فِي عَذَابِ اللَّهِ مُحْضِرُونَ، وَقَدْ أَحْضَرَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَجَمَعَهُمْ فِيهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ الَّذِي كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُكَذِّبُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَسَبِّحُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ: أَيْ صَلَّوْا لَهُ {حِينَ تُمْسُونَ}، وَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِِ، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}، وَذَلِكَ صَلَاةُ الصُّبْحِ {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: وَلَهُ الْحَمْدُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ دُونَ غَيْرِهِ (فِي السَّمَوَاتِ) مِنْ سُكَّانِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، (وَالْأَرْضِ) مِنْ أَهْلِهَا، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ خَلْقِهِ فِيهَا، (وَعَشِيًّا) يَقُولُ: وَسَبِّحُوهُ أَيْضًا عَشِيًّا، وَذَلِكَ صَلَاةُ الْعَصْرِ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} يَقُولُ: وَحِينَ تَدْخُلُونَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ: هَلْ نَجِدُ مِيقَاتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعِمَ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الْمَغْرِبُ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الْفَجْرُ (وَعَشِيًّا) الْعَصْرُ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظَّهْرُ، قَالَ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: نَعِمَ، فَقَرَأَ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قَالَ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} قَالَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ (وَعَشِيًّا) قَالَ: صَلَاةُ الْعَصْرِ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صَلَاةُ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عِيَاضٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَمَعَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قَالَ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الْفَجْرُ (وَعَشِيًّا) الْعَصْرُ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظَّهْرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ أَبِي عِيَاضٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} قَالَ: جَمَعَتِ الصَّلَوَاتَ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صَلَاةُ الصُّبْحِ (وَعَشِيًّا) صَلَاةُ الْعَصْرِ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صَلَاةُ الظُّهْرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي سِنَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الْفَجْرُ (وَعَشِيًّا) الْعَصْرُ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظَّهْرُ، وَكُلُّ سَجْدَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ صَلَاةٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} لِصَلَاةِ الصُّبْحِ (وَعشَيًّا) لِصَلَاةِ الْعَصْرِ {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صَلَاةُ الظُّهْرِ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} قَالَ: {حِينَ تُمْسُونَ}: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَعَشِيًّا: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ: صَلَاةُ الظُّهْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: صَلَّوْا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فِيهَا أَيُّهَا النَّاسُ اللَّهُ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْحَيُّ مِنَ الْمَاءِ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَاءَ الْمَيِّتَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فَيُنْبِتُهَا، وَيُخْرِجُ زَرْعَهَا بَعْدَ خَرَابِهَا وَجَدُوبِهَا {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} يَقُولُ: كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَيُخْرِجُ نَبَاتَهَا وَزَرْعَهَا، كَذَلِكَ يُحْيِيكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ، فَيُخْرِجُكُمْ أَحْيَاءً مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ. وَقَدْ بَيَّنَا فِيمَا مَضَى قَبْلَ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ مَا لَمْ نَذْكُرْ مِنَ الْخَبَرِ هُنَالِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قَالَ: يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَاءً مَيِّتًا فَيَخْلُقُ مِنْهُ بَشَرًا، فَذَلِكَ الْمَيِّتُ مِنَ الْحَيِّ، وَيَخْرُجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، فَيَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَذَلِكَ الْحَيُّ مِنَ الْمَيِّتِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قَالَ: النُّطْفَةُ مَاءُ الرَّجُلِ مَيِّتَةً وَهُوَ حَيٌّ، وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ عَلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ إِنْشَاءٍ وَإِفْنَاءٍ، وَإِيجَادٍ وَإِعْدَامٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَخَلْقُهُ خِلْقَةُ أَبِيكُمْ مِنْ تُرَابٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ فَعَلَهُ بِأَبِيهِمْ آدَمَ كَنَحْوِ الَّذِي قَدْ بَيَّنَا فِيمَا مَضَى مِنْ خِطَابِ الْعَرَبِ مَنْ خَاطَبَتْ بِمَا فَعَلَتْ بِسَلَفِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَعَلْنَا بِكُمْ وَفَعَلْنَا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} يَقُولُ: ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ مَعْشَرُ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْنَاهُ مِنْ تُرَابٍ {بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}، يَقُولُ: تَتَصَرَّفُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تُرَابٍ {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} يَعْنِي: ذَرِّيَّتَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ وَأَدِلَّتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا خَلْقُهُ لِأَبِيكُمْ آدَمَ مِنْ نَفْسِهِ زَوْجَةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَحَوَّاءَمِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} خَلَقَهَا لَكُمْ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} يَقُولُ: جَعَلَ بَيْنَكُمْ بِالْمُصَاهَرَةِ وَالْخُتُونَةِ مَوَدَّةً تَتَوَادُّونَ بِهَا، وَتَتَوَاصَلُونَ مِنْ أَجْلِهَا، (وَرَحْمَةً) رَحِمَكُمْ بِهَا، فَعَطَفَ بَعْضُكُمْ بِذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ لَعِبَرًا وَعِظَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَذَكَّرُونَ فِي حُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فَعْلُ شَيْءٍ شَاءَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ وَأَدِلَّتِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ إِذَا شَاءَ أَمَاتَ مَنْ كَانَ حَيًّا مَنْ خَلْقِهِ، {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وَأَعَادَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ إِمَاتَتِهِ إِيَّاهُ خَلْقُهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَحْدَثَ ذَلِكَ مِنْهُ، بَلْ بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَا يَمْتَنِعُ مَعَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} يَقُولُ: وَاخْتِلَافُ مَنْطِقِ أَلْسِنَتِكُمْ وَلُغَاتِهَا (وَأَلْوَانِكُمْ) يَقُولُ: وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ أَجْسَامِكُمْ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} يَقُولُ: إِنَّ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَعَبْرًا وَأَدِلَّةً لِخَلْقِهِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ أَنَّهُ لَا يُعْيِيهِ إِعَادَتُهُمْ لِهَيْئَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا بِهَا قَبْلَ مَمَاتِهِمْ مِنْ بَعْدِ فَنَائِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَا مَعْنَى (الْعَالِمِينَ) فِيمَا مَضَى قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ، تَقْدِيرُهُ السَّاعَاتِ وَالْأَوْقَاتِ، وَمُخَالَفَتُهُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَجَعَلَ اللَّيْلَ لَكُمْ سَكَنًا تَسْكُنُونَ فِيهِ، وَتَنَامُونَ فِيهِ، وَجَعَلَ النَّهَارَ مُضِيئًا لِتَصَرُّفِكُمْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَالْتِمَاسِكُمْ فِيهِ مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي فِعْلِ اللَّهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَعِبَرًا وَذِكْرَى وَأَدِلَّةً عَلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ (لِقَوْمٍ يِسْمَعُونَ) مَوَاعِظَ اللَّهِ، فَيَتَّعِظُونَ بِهَا، وَيَعْتَبِرُونَ فَيَفْهَمُونَ حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} لَكَمْ إِذَا كُنْتُمْ سَفْرًا، أَنْ تُمْطَرُوا فَتَتَأَذَّوْا بِهِ (وَطَمَعًا) لَكُمْ، إِذَا كُنْتُمْ فِي إِقَامَةٍِ، أَنْ تُمْطَرُوا، فَتَحْيَوْا وَتَخْصَبُوا {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يَقُولُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا، فَيُحْيِي بِذَلِكَ الْمَاءِ الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ؛ فَتَنْبُتُ وَيَخْرُجُ زَرْعَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، يَعْنِي جُدُوبَهَا وَدُرُوسِهَا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} يَقُولُ: إِنْ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَعِبَرًا وَأَدِلَّةً (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَأَدِلَّتَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فَى قَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} قَالَ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ سُقُوطِ "أَنْ" فِي قَوْلِهِ: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا "أَنْ"؛ لِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا أيُّهَـذَا الزَّاجِـرِي أحْـضُرَ الـوَغَى *** وَأَنْ أشْـهَدَ اللَّـذَّاتِ هَـلْ أَنْتَ مُخْلِدِي قَالَ: وَقَالَ: لَـوْ قُلْـتُ مـا فِـي قَوْمِهـا لَـمْ تِيثَمِ *** يَفْضُلُهـا فـي حَسَـبٍ وَمِيسـمِ وَقَالَ: يُرِيدُ مَا فِي قَوْمِهَا أَحَدٌ، وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ: إِذَا أَظْهَرْتَ "أَنْ" فَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَمَا قَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنَامُكُمْ} فَإِذَا حَذَفْتَ جَعَلْتَ (مِنْ) مُؤَدِّيَةً عَنِ اسْمٍ مَتْرُوكٍ، يَكُونُ الْفِعْلُ صِلَةً، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تارَتـانِ فَمِنْهُمـا *** أَمُوتُ وأُخْرَى أبْتَغـي الْعَيْشَ أَكْدَحُ كَأَنَّهُ أَرَادَ: فَمِنْهُمَا سَاعَةٌ أُمُوتُهَا، وَسَاعَةٌ أَعِيشُهَا، وَكَذَلِكَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} آيَةَ الْبَرْقِ، وَآيَةَ لِكَذَا، وَإِنْ شِئْتَ أَرَدْتَ: وَيُرِيكُمْ مِنْ آيَاتِهِ الْبَرْقَ، فَلَا تُضْمِرُ "أَنْ" وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ قَوْلَ الْبَصْرِيِّ: إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْذَفَ "أَنْ" مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهَا، فَأَمَّا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَا فَأَمَّا مَعَ أَحْضَرَ الْوَغَى، فَلَمَّا كَانَ: زَجَرْتُكَ أَنْ تَقُومَ، وَزَجَرْتُكَ لِأَنْ تَقُومُ، يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ جَازَ حَذْفُ "أَنْ"؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَعْرُوفٌ لَا يَقَعُ فِي كُلِّ الْكَلَامِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ قَائِمٌ، وَأَنَّكَ تَقُومُ، وَأَنْ تَقُومَ، فَهَذَا الْمَوْضِعُ لَا يُحْذَفُ، لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ "مِنْ" فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ) تَدَلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ. وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهَا تَقْتَضِي الْبَعْضَ، فَلِذَلِكَ تَحْذِفُ الْعَرَبُ مَعَهَا الِاسْمَ؛ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، قِيَامُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِأَمْرِهِ خُضُوعًا لَهُ بِالطَّاعَةِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تُرَى {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} يَقُولُ: إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ مِنَ الْأَرْضِ، إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ إِيَّاكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قَامَتَا بِأَمْرِهِ بِغَيْرِ عَمَدٍ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} قَالَ: دَعَاهُمْ فَخَرَجُوا مِنَ الْأَرْضِ. حُدِّثَتْ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} يَقُولُ: مِنَ الْأَرْضِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَلَكٍ وَجِنٍّ وَإِنْسٍ عَبِيدٍ وَمَلِكٍ {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} يَقُولُ: كُلٌّ لَهُ مُطِيعُونَ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَهُ عَاصُونَ؟ فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَنَذْكُرُ اخْتِلَافَهُمْ، ثُمَّ نُبَيِّنُ الصَّوَابَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ كَلَامٌ مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَمَعْنَاهُ: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فِي الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ وَالْمَوْتِ، وَالْفَنَاءِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَصَاهُ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} إِلَى {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} يَقُولُ: مُطِيعُونَ، يَعْنِي الْحَيَاةَ وَالنُّشُورَ وَالْمَوْتَ، وَهُمْ عَاصُونَ لَهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} بِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}: أَيْ مُطِيعٌ مُقِرٌّ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالْمَعْنَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} مِنْ مَلِكٍ وَعَبَدٍ مُؤْمِنٍ لِلَّهِ مُطِيعٍ دُونَ غَيْرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ. قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قَالَ: كُلٌّ لَهُ مُطِيعُونَ، الْمُطِيعُ: الْقَانِتُ. قَالَ: وَلَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ مُطِيعٌ، إِلَّا ابْنَ آدَمَ، وَكَانَ أَحَقُّهُمْ أَنْ يَكُونَ أُطْوَعُهُمْ لِلَّهِ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. قَالَ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ. لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يَتَكَلَّمُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَمْشِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: وَيَتَقَابَلُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، قَالُوا: لِكَيْ تَذْهَبَ الشَّحْنَاءُ مِنْ قُلُوبِنَا، تَسْلَمُ قُلُوبُ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ، فَقَالَ اللَّهُ: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ لَا تَزُولُوا كَمَا يَزُولُونَ. قَانِتِينَ: لَا تَتَكَلَّمُوا كَمَا يَتَكَلَّمُونَ. قَالَ: فَأَمَّا مَا سِوَى هَذَا كُلِّهِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقُنُوتِ فَهُوَ الطَّاعَةُ، إِلَّا هَذِهِ الْوَاحِدَةُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَّرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ خَلْقِ لِلَّهِ مُطِيعٌ فِي تَصَرُّفِهِ فِيمَا أَرَادَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مِنْ حَيَاةٍ وَمَوْتٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَصَاهُ فِيمَا يَكْسِبُهُ بِقَوْلِهِ، وَفِيمَا لَهُ السَّبِيلُ إِلَى اخْتِيَارِهِ وَإِيثَارِهِ عَلَى خِلَافِهِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ خَلْقِهِ فِيمَا لَهُمُ السَّبِيلُ إِلَى اكْتِسَابِهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ لَهُ قَانِتُونَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخْبِرَ عَمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَنَّهُ لَهُ قَانِتٌ فِيمَا هُوَ لَهُ عَاصٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي فِيهِ عَاصٍ هُوَ مَا وَصَفْتُ، وَالَّذِي هُوَ لَهُ قَانِتٌ مَا بَيَّنْتُ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِي لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ فَيُنْشِئُهُ وَيُوجِدُهُ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، ثُمَّ يُفْنِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، كَمَا بَدَأَهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَهُوَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍِ الْعَطَّارُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قَالَ: مَا شَيْءٌ عَلَيْهِ بِعَزِيزٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ هَيِّنٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: وَإِعَادَةُ الْخَلْقِ بَعْدَ فَنَائِهِمْ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قَالَ: يَقُولُ: أَيْسَرُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قَالَ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الْبُدَاءَةِ، وَالْبُدَاءَةِ عَلَيْهِ هَيِّنٌ. حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قَالَ: تَعَجَّبَ الْكُفَّارُ مِنْ إِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إِعَادَةُ الْخَلْقِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ إِبْدَاءِ الْخَلْقِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، بِنَحْوِهِ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِعَادَةُ الْخَلْقِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنِ ابْتِدَائِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}: يَقُولُ: إِعَادَتُهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ بَدْئِهِ، وَكُلٌّ عَلَى اللَّهِ هَيِّنٌ. وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: {وَكْلٌّ عَلَى اللَّهِ هَيِّنٌ}. وَقَدْ يَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَام وَجْهَيْنِ غَيْرَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْخَلْقِ؛ أَيْ إِعَادَةُ الشَّيْءِ أَهْوَنُ عَلَى الْخَلْقِ مِنِ ابْتِدَائِهِ. وَالَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْخَبَرِ الَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ سَعْدٍ قَوْلٌ أَيْضًا لَهُ وَجْهٌ. وَقَدْ وَجَّهَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ: أخـي قَفَـرَاتٍ دَبَّيَـتْ فِـي عِظَامِـهِ *** شُـفَافَاتُ أَعْجَازِ الْكَـرَى فَهُوَ أَخْضَعُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى خَاضِعٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: لَعَمْـرُكَ إِنَّ الزِّبْرَقـانَ لَبـاذِلٌ *** لَمعْروفِـهِ عِنْـدَ السِّـنِينَ وأفْضَـلُ كَـرِيمٌ لَـه عَـنْ كُـلِّ ذَمًّ تَـأَخُّرٌ *** وفِـي كُـلِّ أسْـبابِ المَكـارِمِ أَوَّلُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: وَفَاضِلٌ. وَقَوْلُ مَعْنٍ: لَعَمْـرُكَ ما أَدْرِي وَإِنِّـي لَأَوْجَـلُ *** عَلَى أَيِّنَا تَعْـدُو المَنِيَّـةُ أَوَّلُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: وَإِنِّي لَوَجِلٌ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: تَمَنَّـى مُرَيْءُ الْقَيْسِ مَوْتِي وَإِنْ أَمُتْ *** فَتِلْكَ سَـبِيلٌ لَسْـتُ فِيهـا بـأوْحَدِ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: لَسْتُ فِيهَا بِوَاحِدٍ. وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: إِنَّ الَّذِي سَـمَكَ السَّـماءَ بَنَى لَنَا *** بَيْتـًا دَعَائِمُـهُ أَعَـزُّ وأطْـوَلُ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَذَانِ: اللَّهُ أَكْبَرُ؛ بِمَعْنَى: اللَّهُ كَبِيرٌ؛ وَقَالُوا: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِ الْخَلْقُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}، وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أَيْ: لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُهُمَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يَقُولُ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَذَلِكَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، تَعَالَى رَبُّنَا وَتَقَدَّسَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ} يَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} مَثَلُهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، وَتَصْرِيفِهِمْ فِيمَا أَرَادَ مِنْ إِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَبَعْثٍ وَنَشْرٍ، وَمَا شَاءَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَثَّلَ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ رَبُّكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَقُولُ: مِنْ مَمَالِيكِكِمْ مِنْ شُرَكَاءَ، فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ مَالٍ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ وَهُمْ. يَقُولُ: فَإِذَا لَمْ تَرْضَوْا بِذَلِكَ لِأَنْفُسِكُمْ فَكَيْفَ رَضِيتُمْ أَنْ تَكُونَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا لِي شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّايَ، وَأَنْتُمْ وَهُمْ عَبِيدِي وَمَمَالِيكِي، وَأَنَا مَالِكٌ جَمِيعَكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} قَالَ: مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَدَلَ بِهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ، يَقُولُ: أَكَانَ أَحَدُكُمْ مُشَارِكًا مَمْلُوكَهُ فِي فِرَاشِهِ وَزَوْجَتِهِ؟ ! فَكَذَلِكُمُ اللَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يُعَدِّلَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} قَالَ: هَلْ تَجِدُ أَحَدًا يَجْعَلُ عَبْدَهُ هَكَذَا فِي مَالِهِ، فَكَيْفَ تَعْمَدُ أَنْتَ وَأَنْتَ تَشْهَدُ أَنَّهُمْ عَبِيدِي وَخَلْقِي، وَتَجْعَلُ لَهُمْ نَصِيبًا فِي عِبَادَتِي، كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَرَأَ: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَخَافُونَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ، مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، أَنْ يَرِثُوكُمْ أَمْوَالَكُمْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِكُمْ، كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي الْآلِهَةِ، وَفِيهِ يَقُولُ: تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: تَخَافُونَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَنْ يُقَاسِمُوكُمْ أَمْوَالَكُمْ، كَمَا يُقَاسِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ، قَالَ: قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إِنَّ مَمْلُوكَكَ لَا تَخَافُ أَنْ يُقَاسِمَكَ مَالَكَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَذَلِكَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، الْقَوْلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُهُمَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَبَخَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهَا خَلْقُهُ وَهُمْ عَبِيدُهُ، وَعَيَّرَهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكَمَ مِنْ عَبِيدِكُمْ شُرَكَاءَ فِيمَا خَوَّلْنَاكُمْ مَنْ نَعَمِنَا، فَهُمْ سَوَاءٌ، وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمْ ذَلِكَ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، كَخِيفَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا أَنْ يُقَاسِمَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنَ الْمَالِ شَرِكَةً، فَالْخِيفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنْ تَكُونَ خِيفَةً مِمَّا يَخَافُ الشَّرِيكُ مِنْ مُقَاسَمَةِ شَرِيكِهِ الْمَالَ الَّذِي بَيْنَهُمَا إِيَّاهُ، أَشْبَهَ مِنْ أَنْ تَكُونَ خِيفَةً مِنْهُ بِأَنْ يَرِثَهُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّرِكَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى خِيفَةِ الْوِرَاثَةِ، وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى خِيفَةِ الْفِرَاقِ وَالْمُقَاسَمَةِ. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا بَيَّنَا لَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ حُجَجَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى مَا نَشَاءُ مِنْ إِنْشَاءِ مَا نَشَاءُ، وَإِفْنَاءِ مَا نُحِبُّ، وَإِعَادَةِ مَا نُرِيدُ إِعَادَتَهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، وَدَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ كَذَلِكَ نُبَيِّنُ حُجَجَنَا فِي كُلِّ حَقٍّ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، فَيَتَدَبَّرُونَهَا إِذَا سَمِعُوهَا، وَيَعْتَبِرُونَ فَيَتَّعِظُونَ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَا أَشْرَكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مَنْ مِلْكِ أَيْمَانِهِمْ، فَهُمْ وَعَبِيدُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، يَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوهُمْ مَا هُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهِ، فَرَضُوا لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بِمَا رَضُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَأَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَتِهِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَكَفَرُوا بِاللَّهِ، اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، جَهلًا مِنْهُمْ لِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَأَشْرَكُوا الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ فِي عِبَادَتِهِ، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} يَقُولُ: فَمَنْ يُسَدِّدُ لِلصَّوَابِ مِنَ الطُّرُقِ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ يُوَفِّقُ لِلْإِسْلَامِ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ وَالرَّشَادِ {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يَقُولُ: وَمَا لِمَنْ أَضَلَّ اللَّهُ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُ، فَيُنْقِذُونَهُ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي يَبْتَلِيهِ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَسَدِّدْ وَجْهَكَ نَحْوَ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَّهَكَ إِلَيْهِ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ لِطَاعَتِهِ، وَهِيَ الدِّينُ، (حَنِيفًا) يَقُولُ: مُسْتَقِيمًا لِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} يَقُولُ: صَنْعَةُ اللَّهِ الَّتِي خَلَقَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَنُصِبَتْ "فِطْرَةَ" عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ فِطْرَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قَالَ: الْإِسْلَامُ مُذْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ آدَمَ جَمِيعًا، يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، وَقَرَأَ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قَالَ: فَهَذَا قَوْلُ اللَّهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} بَعْدُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فِطْرَةَ اللَّهِ} قَالَ: الْإِسْلَامُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ يَزِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: مَرَّ عُمْرُ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَقَالَ: مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ مُعَاذُ: ثَلَاثٌ، وَهُنَّ الْمُنْجِيَاتِ: الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ الْفِطْرَةُ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وَالصَّلَاةُ: وَهِيَ الْمِلَّةُ، وَالطَّاعَةُ: وَهِيَ الْعِصْمَةُ. فَقَالَ عُمْرُ: صَدَقْتَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ عُمْرَ قَالَ لِمُعَاذٍِ: مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَوْلُهُ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} يَقُولُ: لَا تَغْيِيرَ لِدِينِ اللَّهِ؛ أَيْ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ: لِدِينِهِ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ قَالَ: أَرْسَلَ مُجَاهِدٌ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: قَاسِمٌ، إِلَى عِكْرِمَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} إِنَّمَا هُوَ الدِّينُ، وَقَرَأَ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قَالَ: الْإِسْلَامُ. قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ نَضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْوَرْدِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ، فَسَلْ عَنْهَا عِكْرِمَةَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: دِينُ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ؟ ! أَلَمْ يَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: أَيْ لِدِينِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. قَالَ: ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ: دِينُ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ مِسْعَرٌ وَسُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لِدِينِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَغْيِيرَ لِخَلْقِ اللَّهِ مِنَ الْبَهَائِمِ، بِأَنْ يُخْصَي الْفُحُولُ مِنْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ رَجُلٍ، سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْخِصَاءِ الْبَهَائِمِ، فَكُرْهَهُ، وَقَالَ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: الْإِخْصَاءُ. قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْإِخْصَاءُ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ إِقَامَتَكَ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، غَيْرَ مُغَيِّرٍ وَلَا مُبَدِّلٍ- هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، يَعْنِي: الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ. وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الدِّينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى الْحِسَابِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو لَيْلَى، عَنْ بُرَيْدَةَ {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قَالَ: الْحِسَابُ الْقَيِّمُ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي أَمَرْتُكَ يَا مُحَمَّدُ بِهِ بِقَوْلِي {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ دُونَ سَائِرِ الْأَدْيَانِ غَيْرُهُ.
|